كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الشمس واحدة من نحو مائة مليون من الشموس في المجرة القريبة منا؛ والتي نحن منها. وقد كشف البشر حتى اليوم نحو مائة مليون من هذه المجرات! متناثرة في الفضاء الهائل من حولها تكاد تكون تائهة فيه!
والذي كشفه البشر جانب ضئيل صغير لا يكاد يذكر من بناء الكون! وهو على ضآلته هائل شاسع يدير الرءوس مجرد تصوره. فالمسافة بيننا وبين الشمس نحو من ثلاثة وتسعين مليونًا من الأميال. ذلك أنها رأس أسرة كوكبنا الأرضي الصغير. بل هي على الأرجح أم هذه الأرض الصغيرة.
ولم تبعد أرضنا عن أحضان أمها بأكثر من هذه المسافة: ثلاثة وتسعين مليونًا من الأميال!
أما المجرة التي تتبعها الشمس فقطرها نحو من مائة ألف مليون سنة.. ضوئية.. والسنة الضوئية تعني مسافة ست مائة مليون ميل! لأن سرعة الضوء هي ستة وثمانون ومائة ألف ميل في الثانية!
وأقرب المجرات الأخرى إلى مجرتنا تبعد عنا بنحو خمسين وسبعمائة ألف سنة ضوئية..!
ونذكر مرة أخرى أن هذه المسافات وهذه الأبعاد وهذه الأحجام هي التي استطاع علم البشر الضئيل أن يكشف عنها. وعلم البشر هذا يعترف أن ما كشفه قطاع صغير في هذا الكون العريض!
والله سبحانه يقول: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون}..
وليس على قدرة الله أكبر ولا أصغر. ولا أصعب ولا أيسر. فهو خالق كل شيء بكلمة.. إنما هي الأشياء كما تبدو في طبيعتها، وكما يعرفها الناس ويقدرونها.. فأين الإنسان من هذا الكون الهائل؟ وأين يبلغ به كبره من هذا الخلق الكبير؟
{وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء}.. فالبصير يرى ويعلم؛ ويعرف قدره وقيمته، ولا يتطاول، ولا ينتفخ ولا يتكبر لأنه يرى ويبصر. والأعمى لا يرى ولا يعرف مكانه، ولا نسبته إلى ما حوله، فيخطئ تقدير نفسه وتقدير ما يحيط به، ويتخبط هنا وهنالك من سوء التقدير.. وكذلك لا يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيء. إن أولئك أبصروا وعرفوا فهم يحسنون التقدير. وهذا عمي وجهل فهو يسيء.. يسيء كل شيء. يسيء إلى نفسه، ويسيء إلى الناس. ويسيء قبل كل شيء إدراك قيمته وقيمة ما حوله. ويخطئ في قياس نفسه إلى ما حوله. فهو أعمى.. والعمى عمى القلوب!
{قليلًا ما تتذكرون}..
ولو تذكرنا لعرفنا. فالأمر واضح قريب. لا يحتاج إلى أكثر من التذكر والتذكير..
ثم لو تذكرنا الآخرة، ووثقنا من مجيئها، وتصورنا موقفنا فيها، واستحضرنا مشهدنا بها: {إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}..
ومن ثم فهم يجادلون ويستكبرون، فلا يذعنون للحق، ولا يعرفون مكانهم الحق، فلا يتجاوزوه.
والتوجه إلى الله بالعبادة، ودعاؤه والتضرع إليه، مما يشفي الصدور من الكبر الذي تنتفخ به، فيدعوها إلى الجدال في آيات الله بغير حجة ولا برهان. والله سبحانه يفتح لنا أبوابه لنتوجه إليه وندعوه، ويعلن لنا ما كتبه على نفسه من الاستجابة لمن يدعوه؛ وينذر الذين يسكتبرون عن عبادته بما ينتظرهم من ذل وتنكيس في النار: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}..
وللدعاء أدب لابد أن يراعى. إنه إخلاص القلب لله. والثقة بالاستجابة مع عدم اقتراح صورة معينة لها، أو تخصيص وقت أو ظرف، فهذا الاقتراح ليس من أدب السؤال.
والاعتقاد بأن التوجه للدعاء توفيق من الله. والاستجابة فضل آخر. وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: أنا لا أحمل همّ الإجابة إنما أحمل همّ الدعاء. فإذا ألهمت الدعاء كانت الإجابة معه وهي كلمة القلب العارف، الذي يدرك أن الله حين يقدر الاستجابة يقدر معها الدعاء. فهما حين يوفق الله متوافقان متطابقان.
فأما الذين يستكبرون عن التوجه لله فجزاؤهم الحق أن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم! وهذه نهاية الكبر الذي تنتفخ به قلوب وصدور في هذه الأرض الصغيرة، وفي هذه الحياة الرخيصة، وتنسى ضخامة خلق الله. فضلًا على نسيانها عظمة الله. ونسيانها للآخرة وهي آتية لا ريب فيها. ونسيانها للموقف الذليل في الآخرة بعد النفخة والاستكبار.
ولما ذكر الذين يستكبرون عن عبادة الله، شرع يعرض بعض نعم الله على الناس، تلك النعم التي توحي بعظمته تعالى والتي لا يشكرون الله عليها، بل يستكبرون عن عبادته والتوجه إليه: {الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون الله الذي جعل لكم الأرض قرارًا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين}..
والليل والنهار ظاهرتان كونيتان. والأرض والسماء خلقان كونيان كذلك. وهي تذكر مع تصوير الله للبشر وإحسان صورهم، ومع رزق الله لهم من الطيبات.. وتعرض كلها في معرض نعم الله وفضله على الناس، وفي معرض الوحدانية وإخلاص الدين لله. فيدل هذا على ارتباط هذه الظواهر والخلائق والمعاني، وعلى وجود الصلة بينها، ووجوب تدبرها في محيطها الواسع، وملاحظة الارتباط بينها والاتفاق.
إن بناء الكون على القاعدة التي بناه الله عليها، ثم سيره وفق الناموس الذي قدره الله له، هو الذي سمح بوجود الحياة في هذه الأرض ونموها وارتقائها، كما أنه هو الذي سمح بوجود الحياة الإنسانية في شكلها الذي نعهده، ووافق حاجات هذا الإنسان التي يتطلبها تكوينه وفطرته. وهو الذي جعل الليل مسكنًا له وراحة واستجمامًا، والنهار مبصرًا معينًا على الرؤية والحركة، والأرض قرارًا صالحًا للحياة والنشاط، والسماء بناء متماسكًا لا يتداعى ولا ينهار، ولا تختل نسبه وأبعاده ولو اختلت لتعذر وجود الإنسان على هذه الأرض وربما وجود الحياة! وهو الذي سمح بأن تكون هناك طيبات من الرزق تنشأ من الأرض وتهبط من السماء فيستمتع بها هذا الإنسان، الذي صوره الله فأحسن صورته، وأودعه الخصائص والاستعدادات المتسقة مع هذا الكون، الصالحة للظروف التي يعيش فيها مرتبطًا بهذا الوجود الكبير.
فهذه كلها أمور مرتبطة متناسقة كما ترى؛ ومن ثم يذكرها القرآن في مكان واحد، بهذا الترابط. ويتخذ منها برهانه على وحدانية الخالق. ويوجه في ظلها القلب البشري إلى دعوة الله وحده، مخلصًا له الدين، هاتفًا: الحمد لله رب العالمين. ويقرر أن الذي يصنع هذا ويبدعه بهذا التناسق هو الذي يليق أن يكون إلهًا. وهو الله. رب العالمين. فكيف يصرف الناس عن هذا الحق الواضح المبين؟
ونذكر هنا لمحات خاطفة تشير إلى بعض نواحي الارتباط في تصميم هذا الكون وعلاقته بحياة الإنسان.. مجرد لمحات تسير مع اتجاه هذه الإشارة المجملة في كتاب الله..
لو كانت الأرض لا تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ما تعاقب الليل والنهار..
لو دارت الأرض حول نفسها أسرع مما تدور لتناثرت المنازل، وتفككت الأرض، وتناثرت هي الأخرى في الفضاء..
لو دارت الأرض حول نفسها أبطأ مما تدور لهلك الناس من حر ومن برد. وسرعة دوران الأرض حول نفسها، هذه السرعة القائمة الكائنة اليوم، هي سرعة توافق ما على الأرض من حياة حيوانية نباتية بأوسع معانيها.
لولا دوران الأرض حول نفسها لفرغت البحار والمحيطات من مائها.
ماذا يحدث لو استقام محور الأرض، وجرت الأرض في مدارها حول الشمس في دائرة، الشمس مركزها؟ إذن لاختفت الفصول، ولم يدر الناس ما صيف وما شتاء، وما ربيع وما خريف.
لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين. ولما أمكن وجود حياة النبات.
ولو كان الهواء أرفع كثيرًا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلًا في الثانية. وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة. أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربًا من مجرد حرارة مروره.
لو كان الأوكسجين بنسبة 50 في المائة مثلًا أو أكثر في الهواء بدلًا من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال. لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لابد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 في المائة أو أقل فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور. ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان كالنار مثلًا تتوافر له.
وهناك آلاف الموافقات في تصميم هذا الكون لو اختل منها أدنى اختلال ما كانت الحياة في صورتها هذه التي نعرفها، موافقة هكذا لحياة الإنسان.
فأما الإنسان ذاته فمن حسن صورته هذه الهيئة المتفردة بين سائر الأحياء؛ وهذا الاكتمال من ناحية الأجهزة لأداء وظائفه جميعها في يسر ودقة؛ وهذا التوافق بين تكوينه والظروف الكونية العامة التي تسمح له بالوجود والحركة في هذا الوسط الكوني كما هو كائن؛ وذلك كله فوق خاصيته الكبرى التي جعلت منه خليفة في الأرض؛ مجهزًا بأداة الخلافة الأولى: العقل والاتصال الروحي بما وراء الأشكال والأعراض.
ولو رحنا نبحث دقة التكوين الإنساني وتناسق أجزائه ووظائفه بوصفها داخلة في قوله تعالى: {وصوركم فأحسن صوركم} لوقفنا أمام كل عضو صغير، بل أمام كل خلية مفردة، في هذا الكيان الدقيق العجيب.
ونضرب مثلًا لهذه الدقة العجيبة فك الإنسان ووضع الأسنان فيه من الناحية الآلية البحتة. إن هذا الفك من الدقة بحيث إن بروز واحد على عشرة من المليمتر في اللثة أو في اللسان، يزحم اللثة واللسان؛ وبروز مثل هذا الحجم في ضرس أو سن يجعله يصطك بما يقابله ويحتك! ووجود ورقة كورقة السيجارة بين الفكين العلوي والسفلي يجعلها تتأثر بضغط الفكين عليها فتظهر فيها علامات الضغط لأنها من الدقة بحيث يلتقيان تمامًا ليمضغ الفك ويطحن ما هو في سمك ورقة السيجارة!
ثم.. إن هذا الإنسان بتكوينه هذا مجهز ليعيش في هذا الكون.. عينه هذه مقيسة على الذبذبات الضوئية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يراها. وأذنه تلك مقيسة على الذبذبات الصوتية التي تقتضي وظيفته في الأرض أن يسمعها. وكل حاسة فيه أو جارحة مصممة وفق الوسط المهيأ لحياته، ومجهزة كذلك بالقدرة على التكيف المحدود عند تغير بعض الظروف.
إنه مخلوق لهذا الوسط. ليعيش فيه، ويتأثر به، ويؤثر فيه. وهناك ارتباط وثيق بين تصميم هذا الوسط وتكوين هذا الإنسان. وتصوير الإنسان على هذه الصورة ذو علاقة بوسطه. أي بالأرض والسماء. ومن ثم يذكر القرآن صورته في نفس الآية التي يذكر فيها الأرض والسماء.. ألا إنه الإعجاز في هذا القرآن..
وتكفي هذه الإشارات بهذا الاختصار إلى دقة صنع الله وتناسقه بين الكون والإنسان.
ونقف وقفات سريعة أمام النصوص القرآنية: {الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا}..
إن السكون بالليل ضرورة لكل حي. ولابد من فترة من الظلام تسكن فيه الخلايا الحية وتستكن لتزاول نشاطها في النور. ولا يكفي مجرد النوم لتوفير هذا السكون. بل لابد من ليل. لابد من ظلام. فالخلية الحية التي تتعرض لضوء مستمر تصل إلى حد من الإجهاد تتلف معه أنسجتها لأنها لم تتمتع بقسط ضروري لها من السكون.
{والنهار مبصرًا}.. والتعبير على هذا النحو تعبير مصور مشخص. وكأنما النهار حي يبصر ويرى. وإنما الناس هم الذين يبصرون فيه. لأن هذه هي الصفة الغالبة..
وتقلب الليل والنهار على هذا النحو نعمة في طيها نعم. ولو كان أحدهما سرمدًا. بل لو كان أطول مما هو مرات معدودة لانعدمت الحياة. فلا عجب أن يقرن توالي الليل والنهار بذكر الفضل الذي لا يشكره أكثر الناس: {إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون}..
ويعقب على هاتين الظاهرتين الكونيتين، بأن الذي خلقهما هو الذي يكون إلهًا يستحق هذا الاسم العظيم: {ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون}..
وإنه لعجيب يستحق التعجيب أن يرى الناس يد الله في كل شيء، ويعلموا أنه الخالق لكل شيء معرفة حتمية مفروضة على العقل فرضًا بحكم وجود الأشياء، واستحالة ادعاء أحد أنها من خلقه، وعدم استقامة القول بأنها وجدت من غير موجد. عجيب يستحق التعجيب أن يكون هذا كله، ثم يصرف الناس عن الإيمان والإقرار..
{فأنى تؤفكون}..
ولكنه هكذا يصرف ناس عن هذا الحق الواضح. هكذا كما يقع من المخاطبين الأولين بالقرآن. كذلك كان في كل زمان؛ بلا سبب ولا حجة ولا برهان: {كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون}..
وينتقل من ظاهرتي الليل والنهار، إلى تصميم الأرض لتكون قرارًا، والسماء لتكون بناء: {الله الذي جعل لكم الأرض قرارًا والسماء بناء}..
والأرض قرار صالح لحياة الإنسان بتلك الموافقات الكثيرة التي أشرنا إلى بعضها إجمالًا. والسماء بناء ثابت النسب والأبعاد والحركات والدورات ومن ثم تضمن الاستقرار والثبات لحياة هذا الإنسان، المحسوب حسابهم في تصميم هذا الوجود، المقدرة في بنائه تقديرًا..
ويربط بتكوين السماء والأرض تكوين الإنسان ورزقه من الطيبات على النحو الذي أشرنا إلى بعض أسراره: {وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات}..
ويعقب على هذه الآيات والهبات كما عقب على الأولى: {ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين}..
ذلكم الذي يخلق ويقدر ويدبر، ويراعيكم ويقدر لكم مكانًا في ملكه.. ذلكم الله ربكم.
{فتبارك الله}.. وعظمت بركته وتضاعفت.
{رب العالمين}.. أجمعين.
{هو الحي}..